الخميس 2024/11/21
اللغة الجيّاشة والتقنية المغايرة في تجربة (حائط المساء لنوفل أبورغيف)* كتابة/ علوان السلمان
4244.pdf | 583 KB |


انطلاقاً من رأي أدونيس في أنَّ الشعرَ الحديث هو الذي يعبر عن اللغة في وظيفتها الجمالية ويعكس بعديها الروحي والفكري، فإن هذا الرأي يمثلُ مدخلاً يأخذنا الى التعرف على المجموعة الابداعية النصية الموسومة(حائط المساء) واستنطاق (نصوصها المفتوحة) كما يرد في تحديد جنسها الابداعي على الغلاف، ممايطلق عليه تداولياً بــ(نص العصر)، وهو مايؤكد القول بــ تلاشي الحدود الفنية بين الأجناس الأدبية وسقوط المركزيات التي يأتي في مقدمتها الايقاع في مثل هذه التجارب حيث(من الممكن أن يتوافر للنثر ايقاع مشابه للايقاع الشعري) كما يذهب ارسطو الى هذا المضمون.. ولذا فهو فعالية انتاجية تسعى الى الانفتاح على السرديات الحكائية والتشكيل والسير والتاريخ.
هذه المجموعة (حائط المساء) التي نسجت عوالمها قريحة الشاعر د. نوفل أبورغيف وصدرت ضمن منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق لسنة 2022.. تقوم على مجموعة من المستويات الفنية التي تتراكب عضوياً لتنتج صورةً محركِةً للذاكرة ولمكامن الشعور وباعثةً للتوترات السايكولوجية، في لحظة خلقها المنبثقة عن الذات الكاشفة عن جوهرها وبناها الداخلية، بلغة ترتبط بمرجعيات (الشاعر) الفكرية والعوامل الذاتية والموضوعية التي تسهم في تشكيل تجربته وتترجم تصوراته وأحاسيسه، فضلاً عن تعدديتها القابلة للتأويل والانفتاح على مجمل الأجناس الثقافية الابداعية مع اعتمادها لغة السرد كمحركٍ أساسي في تشغيلٍ فاعلٍ ومتفاعل في بناء النص المكتظ بالمضامين الانسانية،واعتماده عنصرَ الحداثة في ايصال رسالته التي تحاكي تجربة الشاعر في واقع مركَّبٍ وتضفي عليها أبعاداً تأمليةً وجمالية.. ابتداءً من الاشتغال الأيقوني العنواني الدال على المضمون النصّي، مروراً بالنص الموازي يمثلهُ (الإهداء) المتميز الذي يتجلى في قوله:( اليهم مجددا.. لأجلك يا أبي../ لعباءة امي../ والى من كانت تراقب سهادي/ والى المحسد هلال.. الخ)


ثم ينطلق في تشييد حائط المساء عبر تجربته المختلفة حيث يقول: 
(أيها المساء..
كُن أبتي
كُن سادنَ قلقي
وامنحني بحراً
أَنحَتُ من صمتِه غيماً يليقُ بانتظاري
وامنحني نافذةً تتَسعُ لسمائي
فقد آن أن نَقترحَ فصولَنا الآجلِةَ
ونبتديءَ الأمل
أَيُها المساء..
هَبني من بقايا أسرارِكَ
بوحاً يمتدُ حتى النهاية
يبدأ من النبوءةِ الأولى
حيث ينبت وجعنا العنيد
هبني بوحاً نفتَحُ مغاليقَهُ معاً
لنستعيدَ مواعيدَنا
فنتصفَّحُ رائحةَ المدينةِ التي خبأتنا مع ورَق الإنتظار) ص 17- ص 18
فهذا النص يؤكد على تكريس القيم الجمالية دلالياً عبر البناء الفني الذي صاغه الشاعر بنحوٍ ملفت، لما يحتويه من تنوع أسلوبي يجنح نحو لغة درامية متينةٍ بعيدة عن الغنائية المفرطة التي استغرقتها الرومانسية.. اذ إن تغليف (مبدع النص ) لعواطفه بضبابية الأسى الذي يعانيه ويعتمل في دواخله، قد منَح التجربة حضوراً ملفتاً، فكانت انفعالاتُه العميقةُ تنشرُ الألم بدخانها المتصاعد محاطاً بوعي داخلي يوجه تجربته الشعرية نحوَ حضورٍ اجتماعي يتمثل في عطاءاتٍ روحيةٍ بالغةِ الأثر باختزال الفضاء الشعري واعتماد التداخل بين السرد والوصف والفضاء المكاني والبعد النفسي والحضور الاجتماعي.. بتوظيف لغةٍ واعيةٍ تشكلُ هاجساً قلِقاً ومتجدداً للابداع، يسعى من خلاله (الشاعر) الى تحقيق تآلفٍ حميمٍ بين بنية التركيب اللغوي وبين العلاقة الدلالية والإشارات اللفظية التي تومض داخل النص من خلال النظام الإيقاعي الموسيقي المتجانس والمتداخل في علاقة الكلمات بأفعالها وأسمائها وحروفها في بنية النص الداخلية بإعتبارها ظاهرةً مشعةً تسعى الى إثارة (المتلقي) وشدَّهِ،من خلال زاوية التأزّم ثم وصولاً الى لحظة الإنفراج بقصد الإدهاش.. فضلاً عن استخدامه تقنياتٍ اسلوبيةً كالتكرار الدائري الذي شكَّلَ لازمةَ النص وأضفى على جسده نبرةً إيقاعيةً جاذبة.
 وتبرز أيضاً خاصية (النداء) في نصوص (حائط المساء)عبر (الحركة الزمنية المتراكمة بتأثير الصور في وجدان الشاعر فتحقق تراكماً كثيفاً مترابطَ الوحدات معتمداً على النمو الزمني..) اذ تتوافد الصور من المركز وتتراكمُ فوقَ بعضها، ويأتي الشاعر ليوقظها من سباتها وينسجُ عالمها بوعيٍ شعريٍ ممزوجٍ بالخيال.. إلى جانب توظيفه للرمز بشكل لافت،.. موظِفاً ذلك الترميز بجعله                               (أداةً فكرية للتعبير عن قيمٍ غامضةٍ.. بغرض تصعيد التكنيك الشعري).. وبذلك ترتفع التجربة الشعرية الى حالة من الشمول والصور الأخاذة التي تتحول الى رؤيا شعرية خاصة.
يقول د. نوفل أبورغيف في نصه الموسوم (غزل.. على لسانها):
(لأنَكَ
صحراويُ العَينِ
وغاباتيُّ الحاجبِ
وصيفيُّ الروح
وشتائيُّ الصمتِ
ودافيءُ البوح
فأنتَ سادِنُ الطَبيعةِ الأول) ص 87..
ويبرز في هذا المنجز الابداعي المتميزً، طيف التضمين الشعري الممتزج بوعي مركّب من عيون الشعر العربي كما في عباراته المنتشرة بين صفحات الديوان من قبيل عباراته الآتية: 
(تنقضي الأيام، وتتساقطُ الساعات، وتَحترق الأماني، وكل الذي  فوق التراب تراب وغيرها) موزعةً في نصوص مختلفة وفق توظيف شعري بارع.
وفي نصَّه الموسوم (لغة المشاوير) يقول أبورغيف:
(( علَّمتنا القَبيلةُ أن نُخبيءَ انكسارَنا
ونُعلنَ قسوَتنا
ونبتسمَ للطعنات
ونشحذَ كبرياءنَا كلَ يومٍ أَمامَ الريح
وأنَّ الرجالَ لايبكون )) ص 53 
فالشاعر هنا يمزجُ الحوارَ بالسرد الشعري الذاتي والسياق الموضوعي بايحائية حركية ليضفي على نصهِ حيويةً معبرةً عن (مستوى السرد كحدث ..وعن طبيعة الحوار كمشهد).. من خلال التنقل بين ضمير المتكلم الشاعر (أنا) والمخاطب (هو) .. وبذلك استحالت مشاهدُه النصية الى مساحةٍ تشكيلية بتلوين الجملة بانسياباتٍ وحركات متوترة  يتعمدها الشاعر منقِّباً عن سبل الخروج من أَزمته العميقة بفقد الرموز الكبيرة في حياته وهواجس الواقع الذي يعيشهُ، وقد عَبر عن ذلك (بالاستدراك)، وتكرار (التضاد اللفضي) الذي شكل ثنائيةً تركت آثارها على خلفية النص وتفرعت الى فضاءات متعددة كالذاكرة التي أسست علاقاتها بين لحظتين تمثلانِ (الماضي والحاضر) في تجسيدٍ عالٍ لشعرية الحواس التي كشفت عن الصوت المكبوت، سواءٌ أكانَ ذاتياً أم موضوعياً، من خلال الجملة المشهدية التي شملتها  رؤيته للحياة والناس وهي تعلن عن جمالية الحركة بين الزمان والمكان والطبيعة والصراعات النفسية. فكشفَ عن نصٍ مركب من خلال الجمع بين (أبعادِه اللغوية – وأدواته الحداثية – ووسائله الصورية).. من جهة، وتركَهُ مفتوحاً على عوالم المعرفة والحكمة والجمال الناتج عن اتساع رؤاه التي ترتبط بالتجربة الحياتية مجملاً، والنظرة الكلية للعالم والأشياء من جهة أخرى، فرسَم في الأُفق خطاً (يتجاوزُ نفسَه) كما يعبر سارتر، وحققَ جملةً شعريةً تتنوع أشكالها ولاتَخضعُ للمعايير التقليدية، فضلاً عن إنها تتميز بالتدفق الخيالي والتشكيل البلاغي وتوظيف المكنون السردي والحواري في الجملة، إضافةً الى توظيفهِ الفنون الحسَّيةَ والبصريةَ والمكانية لخلق عوالمه الشعرية المبهرة، فهوَ يوظفُ سيميائيةَ التنقيط التي تحيل (المتلقي/ القاريء) الى علامةٍ من علامات الترقيم بـ(دلالة الحذف) التي تشكل (نصاً صامتاً تتعطل فيه دلالة القول) بمجاورة النص المكتوب، وهي بذلك  تضفي بعداً تشكيلياً وتفتحُ بابَ التأويل فتستدعي المتلقي لفك مغاليق النص وتُسهم في ملء فراغاته.. فضلاً عن كونها تمنحُ النص فاصلاً زمنياً بطريقةٍ بصريةٍ، وتضفي عليه تنغيماً صوتياً يعطي دلالاتٍ ايحائيةً وايقاعيةً مضاعفةً.. 
وما تقدم نستخلص أنَّ الشاعرَ الدكتور نوفل ابورغيف بقي حريصاً على خلق عالم متميز بنسقه الجمالي ضمن وحدةٍ موضوعيةٍ معانقةٍ لفعلها الاستدلالي والانفعالي الشعوري الذي ينم عن عمق المعنى والرؤية، بشعرية ترقى من البُعد المحسوس الى البُعد الذهني باعتماد أدوات تبدو نثريةً في إطارها العام لكنها تتعاضد بذكاء لتحقيق شعرية عالية تلتقط الجزئي من الوجود وتعيدُ خلقَ الاشياء عبرَ خلق عوالمها الدلالية وأنساقها واستعمالاتها المتعددة ..التي تدخل في بناء نص متجاوزٍ للمألوف، بتعطيله للأوزان والقوافي واكتفائه بانسياب الايقاع الداخلي المنبعثة من بين نسيج الألفاظ المشحونة بطاقتها الايحائية .
……………………………

   * ديوان (حائط المساء) نوفل أبورغيف / نصوص، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/ الطبعة الاولى سنة 2022 منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق.


المشاهدات 1442
تاريخ الإضافة 2023/11/22 - 5:40 PM
آخر تحديث 2024/11/20 - 1:27 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1124 الشهر 18871 الكلي 1127231
تصميم وتطوير