( الكتابةُ في زَمَنِ كوفيد.. )*
نوفل أبورغيف
الدفاترُ مركونةٌ
والصباحاتُ خابيةٌ
والمساءُ غريبْ ..
الشوارعُ مأهولةٌ بالفراغ
والمواعيدُ منسيَّةٌ
والغيابُ فَسيح ..
الطريقُ إلى الحُزنِ سالكةٌ
لكنَّ الطريقَ الى شارعِ المتنبي موحشةٌ كئيبة ، والمدائنُ مخنوقةٌ بالحواجزِ ،
والشهورُ طوابيرُ من قَلَقٍ بانتظارِ السماحَ لها بالمرورِ ..
وبغدادُ أكثرُ صمتاً ،
وأوضحُ هَجراً ،
وأشجى ،
لابوصلةَ تشيرُ إلينا
ولا أحدَ يزدحمُ على بوابات الزوراء ،
مشهدٌ مختلف ..
فالأزقّةُ أوسَعُ ..
والجسورُ المهيبةُ بينَ الرصافةِ والكرخِ تبسُطُ أذرُعَها كي يَمُرَّ النهارُ بلا شاهد ٍ، والنخيلُ قصائدُ صَبْرٍ قَديم .
كنّا بالأمسِ نعودُ محمّلينَ
بصخبِ النهاراتِ
وتَعَبِ المَشاوير
لنَزرَعَ ليلَ الدَفاترِ بوحاً شَقيَّاً
نُعَتِّقُهُ للسُهاد ،
ونجمَعَ مارمّمناهُ من خرابِ السياسَةِ ، نُرسلُهُ للجَريدَةِ ونرقُبُ صُبحَ الخميسِ ..
نُمعِنُ في تَسجيلِ مَلامحِ البلادِ الغارقةِ بالموتِ حدَّ الأمل ،
ولم يكن الوقتُ يَكفي .
كانت الكتابةُ تصاحبُنا كأقدارنا
وتُوخزنا حينَ نَغفَلُ عنها ،
وفي الشهورِ الأخيرةِ ، قبل قراراتِ حَظرِ الحياة ، كانت المعاني تغصُّ بالذهول ، وهيَ تُحَدِّقُ في الساحاتِ والمباني المُكتَّظةِ بمشاهدِ الوجعِ المزمنِ والشهداءِ .
الشهداء ..
هاجسُ العراقِ العنيدُ ووصيتُهُ الكبرى.
إنَّهُ الموتُ المزمنُ الحميم الذي نبتَ هنا مذ كانَ مقرُ الشمسُ الدائم مابينَ النهرين .
وأمّا الذينَ طوتهم تلكم العقودُ الثِقال ، فقد استكملتهم القادسيّات والحصاراتُ ، ثُمَّ أسلمت المتبقّي الى مواكبُ زفاف الحشدِ لتَحطَّ الرحالَ في ساحاتِ تشرين .
وهاهي المنايا تتجوَّلُ بين ردهاتِ المَحجورين بحثاً عن الهواء ، لتطفئهم صوتاً صوتاً.
فهكذا يبلُغُ الشبابُ ذروتَهم في بلادنا ..
كيفَ إذن نَقْنَعُ بالانتظارِ ونحنُ نريدُ الكتابةَ عن كلِّ هذا الغياب السحيق ؟
كيف ؟؟ والكتابةُ مُرجَأَةٌ ،
والكلامُ مصابٌ كأيامنا بالدوار ،
ونوباتُ الهلَعِ تطوِّقُ الأعمارَ بينَ اللحظةِ واللحظة .
فحينَ يصبحُ الموتُ بديلاً عن أحلامِنا القديمةِ المؤجّلةِ أصلاً ،
وتَصيرُ الكوابيسُ صديقاً قسرياً ، ويُستَبدلُ صخبُ العيدِ بوحشةِ الإنزواء بين الغُرَفِ والجدران ،
من سيفزِّزَ المعنى؟
ويوقظُ الحروف ؟
وكيفَ نؤثِّثُ وحشةَ الكتابةِ المطبِقَةَ على الجهات ؟
إنهُ الموت ..
الموتُ الذي يتقنُ قطافَ العراقيينَ منذ بدءِ التاريخ ،
كانَ كريماً معهم وكانوا مخلصينَ لهُ ، فكانَ تراثُهم (حائطَ المبكى) و(مذبحَ اسماعيلَ) و( سبيَ كربلاء ) و( خرابَ المغول) و (المشانقَ) و( أحواضَ التيزاب ) و(سبايكر) و (آمرلي) و(داعش) و( الاغتيالات) والطرفُ الثالث ، ويَمتَدُّ الموّال ..
الموتُ أم انتظارُهُ ، لافرقَ ..
فقد اختلطَ بيومياتنا التي ماانفكَّت تنفضُ عن نفسها وجعَ العُمرِ وتحلِّقُ مشدودةً الى قوافِلِ الغَيم.
هو الموتُ نفسُهُ الذي تعرَّفنا إليهِ قبلَ أن ندركَ معناه .
لكنه هذهِ المرّةَ يراقبُنا بشَغَف ،
يختبئُ بيننا ،
يتصيَّدنا ،
يكمنُ لنا في كل مكانٍ ،
يحصدُ من يشاءُ .. كيف يشاء .
وبينما يتغيَّرُ شكلُ العالمِ وتنطفئُ الفناراتُ الأزليَّةُ على حينِ غُرَّةٍ في زمانٍ عسير ،
ولا أثمنُ من العُزلةِ والقطيعةِ بحثاً عن عشبةِ البقاء ..
يراودُنا قلقُ الكتابةِ وسؤالُها الكبير :
كيفَ نرمِّمُ اسماءَنا الخاوية ؟
وكيفَ نأوي الى دفاترنا الحميمةِ وسطَ هذا الوجومِ ؟
من ذَا يعيدُ إلى النهاراتِ بهجتَها في زحمةِ الموت ؟
شهورٌ ثِقالٌ ،
وأمنياتُ كليلةٌ ولاشئَ أغلى من هواءٍ نقيٍّ لا يحملُ الموت .
لم نعُد نتصافَحُ ، أو نتسامَرُ مع هواجِسنا القديمة أو نلتقيها عندَ دجلةَ في المساء .
صرنا نَشتاقُ لأطفالنا كلَّ حينٍ ،
نبوسُ أياديَهم .. نتصفَّحُهم .. نستنشقُهم ، كمن يودِّعُ أحبَّتَهُ ذاهباً الى الحرب .
لم تعُد في الحياةِ منقبةٌ سوى الحياة .. ولم يبقَ متَّسعٌ في القصيدة .
الأَقربونَ يغادرون تِباعاً ،
الصَفَحاتُ مآتمُ ، والمنصّاتُ مثقلةٌ بصورِ الراحلينَ ورائحتهم وضحكاتِهم التي نسوها على أرصِفَةِ العُمرِ وراحوا ..
لكننا سنكتُبُ حتى الرمق الأخير .
فالكتابةُ واجِمَةٌ حتى حين ،
والكتابةُ كامنةٌ في الصَمت ،
الكتابةُ في نشراتِ الأخبارِ المهووسةِ بإحصاءاتِ الغيابِ وأنصافِ الموتى وعناوين الحزنِ والخوفِ والمقابرِ والمستشفيات .
الكتابةُ عالِقَةٌ بين شفاهنا الناشفةِ وفي مُقلِ الأمَّهات ..
عصيَّةٌ لاتطاوعُنا
تريدُنا وننتَظِرُها ولاتأتي ،
فلاهي تتجلّى
ولاهي تَقبَلُ الاستسلام .
وحدَهُ اللهُ .. من يَربِتُ على أكتافنا وسطَ هذا الهَلَعِ الذي يهدّدُ الجميعَ بالموتِ خنقاً ،
وحدَهُ اللهُ من نلوذُ بهِ ونقفُ في بابهِ آمنين .
وحتى الذينَ يعاندونَ أو يُصرّونَ على التمرُّد والتيه ،
فإنهم يقرّونَ اليومَ ويعكفونَ على العودةِ إليهِ ذاهلين .
وهكذا تَنقَضي الأيامُ وتتساقطُ الساعاتُ وتَحتَرِقُ الأماني ..
(وكلُّ الذي فوقَ الترابِ تُرابُ).
فكيفَ للكتابَةِ أن تَجدَ ضالتَها وماذا يمكن أن يرسمَ الشعراءُ أو يقولَ الرسامون ؟
في السياسةِ كما في التجارةِ ،
وفي البيتِ كما في السوق ،
وفي الأحلامِ وفي اليقظةِ وفِي الغياب ،
لا شئَ يشي بالفرَحِ ، ولا حروفَ يتشكّلُ منها البوحُ الذي نلوذُ بهِ أو نتطلَّعُ إليه .
إنها محنةُ الكتابةِ في زمنِ كوفيد ..
الوقتُ يمضي سريعاً ،
والحياة برمَّتِها قِصاص .
......................
* النص منشور في جريدة العالم بعددها الاخير( ٢٥١٩ )/الخميس .