الإثنين 2024/10/7
د.نوفل أبورغيف (الكتابةُ في زَمَنِ كوفيد)


( الكتابةُ في زَمَنِ كوفيد.. )*

نوفل أبورغيف

الدفاترُ مركونةٌ

والصباحاتُ خابيةٌ

والمساءُ غريبْ ..

الشوارعُ مأهولةٌ بالفراغ

والمواعيدُ منسيَّةٌ

والغيابُ فَسيح ..

الطريقُ إلى الحُزنِ سالكةٌ

لكنَّ الطريقَ الى شارعِ المتنبي موحشةٌ كئيبة ، والمدائنُ مخنوقةٌ بالحواجزِ ،

والشهورُ طوابيرُ من قَلَقٍ بانتظارِ السماحَ لها بالمرورِ ..

وبغدادُ أكثرُ صمتاً ،

وأوضحُ هَجراً ،

وأشجى ،

لابوصلةَ تشيرُ إلينا

ولا أحدَ يزدحمُ على بوابات الزوراء ،

مشهدٌ مختلف ..

فالأزقّةُ أوسَعُ ..

والجسورُ المهيبةُ بينَ الرصافةِ والكرخِ تبسُطُ أذرُعَها كي يَمُرَّ النهارُ بلا شاهد ٍ، والنخيلُ قصائدُ صَبْرٍ قَديم .

كنّا بالأمسِ نعودُ محمّلينَ

بصخبِ النهاراتِ

وتَعَبِ المَشاوير

لنَزرَعَ ليلَ الدَفاترِ بوحاً شَقيَّاً

نُعَتِّقُهُ للسُهاد ،

ونجمَعَ مارمّمناهُ من خرابِ السياسَةِ ، نُرسلُهُ للجَريدَةِ ونرقُبُ صُبحَ الخميسِ ..

نُمعِنُ في تَسجيلِ مَلامحِ البلادِ الغارقةِ بالموتِ حدَّ الأمل ،

ولم يكن الوقتُ يَكفي .

كانت الكتابةُ تصاحبُنا كأقدارنا

وتُوخزنا حينَ نَغفَلُ عنها ،

وفي الشهورِ الأخيرةِ ، قبل قراراتِ حَظرِ الحياة ، كانت المعاني تغصُّ بالذهول ، وهيَ تُحَدِّقُ في الساحاتِ والمباني المُكتَّظةِ بمشاهدِ الوجعِ المزمنِ والشهداءِ .

الشهداء ..

هاجسُ العراقِ العنيدُ ووصيتُهُ الكبرى.

إنَّهُ الموتُ المزمنُ الحميم الذي نبتَ هنا مذ كانَ مقرُ الشمسُ الدائم مابينَ النهرين .

وأمّا الذينَ طوتهم تلكم العقودُ الثِقال ، فقد استكملتهم القادسيّات والحصاراتُ ، ثُمَّ أسلمت المتبقّي الى مواكبُ زفاف الحشدِ لتَحطَّ الرحالَ في ساحاتِ تشرين .

وهاهي المنايا تتجوَّلُ بين ردهاتِ المَحجورين بحثاً عن الهواء ، لتطفئهم صوتاً صوتاً.

فهكذا يبلُغُ الشبابُ ذروتَهم في بلادنا ..

كيفَ إذن نَقْنَعُ بالانتظارِ ونحنُ نريدُ الكتابةَ عن كلِّ هذا الغياب السحيق ؟

كيف ؟؟ والكتابةُ مُرجَأَةٌ ،

والكلامُ مصابٌ كأيامنا بالدوار ،

ونوباتُ الهلَعِ تطوِّقُ الأعمارَ بينَ اللحظةِ واللحظة .

فحينَ يصبحُ الموتُ بديلاً عن أحلامِنا القديمةِ المؤجّلةِ أصلاً ،

وتَصيرُ الكوابيسُ صديقاً قسرياً ، ويُستَبدلُ صخبُ العيدِ بوحشةِ الإنزواء بين الغُرَفِ والجدران ،

من سيفزِّزَ المعنى؟

ويوقظُ الحروف ؟

وكيفَ نؤثِّثُ وحشةَ الكتابةِ المطبِقَةَ على الجهات ؟

إنهُ الموت ..

الموتُ الذي يتقنُ قطافَ العراقيينَ منذ بدءِ التاريخ ،

كانَ كريماً معهم وكانوا مخلصينَ لهُ ، فكانَ تراثُهم (حائطَ المبكى) و(مذبحَ اسماعيلَ) و( سبيَ كربلاء ) و( خرابَ المغول) و (المشانقَ) و( أحواضَ التيزاب ) و(سبايكر) و (آمرلي) و(داعش) و( الاغتيالات) والطرفُ الثالث ، ويَمتَدُّ الموّال ..

الموتُ أم انتظارُهُ ، لافرقَ ..

فقد اختلطَ بيومياتنا التي ماانفكَّت تنفضُ عن نفسها وجعَ العُمرِ وتحلِّقُ مشدودةً الى قوافِلِ الغَيم.

هو الموتُ نفسُهُ الذي تعرَّفنا إليهِ قبلَ أن ندركَ معناه .

لكنه هذهِ المرّةَ يراقبُنا بشَغَف ،

يختبئُ بيننا ،

يتصيَّدنا ،

يكمنُ لنا في كل مكانٍ ،

يحصدُ من يشاءُ .. كيف يشاء .

وبينما يتغيَّرُ شكلُ العالمِ وتنطفئُ الفناراتُ الأزليَّةُ على حينِ غُرَّةٍ في زمانٍ عسير ،

ولا أثمنُ من العُزلةِ والقطيعةِ بحثاً عن عشبةِ البقاء ..

يراودُنا قلقُ الكتابةِ وسؤالُها الكبير :

كيفَ نرمِّمُ اسماءَنا الخاوية ؟

وكيفَ نأوي الى دفاترنا الحميمةِ وسطَ هذا الوجومِ ؟

من ذَا يعيدُ إلى النهاراتِ بهجتَها في زحمةِ الموت ؟

شهورٌ ثِقالٌ ،

وأمنياتُ كليلةٌ ولاشئَ أغلى من هواءٍ نقيٍّ لا يحملُ الموت .

لم نعُد نتصافَحُ ، أو نتسامَرُ مع هواجِسنا القديمة أو نلتقيها عندَ دجلةَ في المساء .

صرنا نَشتاقُ لأطفالنا كلَّ حينٍ ،

نبوسُ أياديَهم .. نتصفَّحُهم .. نستنشقُهم ، كمن يودِّعُ أحبَّتَهُ ذاهباً الى الحرب .

لم تعُد في الحياةِ منقبةٌ سوى الحياة .. ولم يبقَ متَّسعٌ في القصيدة .

الأَقربونَ يغادرون تِباعاً ،

الصَفَحاتُ مآتمُ ، والمنصّاتُ مثقلةٌ بصورِ الراحلينَ ورائحتهم وضحكاتِهم التي نسوها على أرصِفَةِ العُمرِ وراحوا ..

لكننا سنكتُبُ حتى الرمق الأخير .

فالكتابةُ واجِمَةٌ حتى حين ،

والكتابةُ كامنةٌ في الصَمت ،

الكتابةُ في نشراتِ الأخبارِ المهووسةِ بإحصاءاتِ الغيابِ وأنصافِ الموتى وعناوين الحزنِ والخوفِ والمقابرِ والمستشفيات .

الكتابةُ عالِقَةٌ بين شفاهنا الناشفةِ وفي مُقلِ الأمَّهات ..

عصيَّةٌ لاتطاوعُنا

تريدُنا وننتَظِرُها ولاتأتي ،

فلاهي تتجلّى

ولاهي تَقبَلُ الاستسلام .

وحدَهُ اللهُ .. من يَربِتُ على أكتافنا وسطَ هذا الهَلَعِ الذي يهدّدُ الجميعَ بالموتِ خنقاً ،

وحدَهُ اللهُ من نلوذُ بهِ ونقفُ في بابهِ آمنين .

وحتى الذينَ يعاندونَ أو يُصرّونَ على التمرُّد والتيه ،

فإنهم يقرّونَ اليومَ ويعكفونَ على العودةِ إليهِ ذاهلين .

وهكذا تَنقَضي الأيامُ وتتساقطُ الساعاتُ وتَحتَرِقُ الأماني ..

(وكلُّ الذي فوقَ الترابِ تُرابُ).

فكيفَ للكتابَةِ أن تَجدَ ضالتَها وماذا يمكن أن يرسمَ الشعراءُ أو يقولَ الرسامون ؟

في السياسةِ كما في التجارةِ ،

وفي البيتِ كما في السوق ،

وفي الأحلامِ وفي اليقظةِ وفِي الغياب ،

لا شئَ يشي بالفرَحِ ، ولا حروفَ يتشكّلُ منها البوحُ الذي نلوذُ بهِ أو نتطلَّعُ إليه .

إنها محنةُ الكتابةِ في زمنِ كوفيد ..

الوقتُ يمضي سريعاً ،

والحياة برمَّتِها قِصاص .

......................

* النص منشور في جريدة العالم بعددها الاخير( ٢٥١٩ )/الخميس .


المشاهدات 6077
تاريخ الإضافة 2020/09/27 - 3:16 PM
آخر تحديث 2024/10/07 - 1:05 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 2404 الشهر 6180 الكلي 1089323
تصميم وتطوير