د.نوفل أبورغيف (الكتابةُ في زَمَنِ كوفيد) ---------------------------------- الكتابةُ في زَمَنِ كوفيد \r\n\r\nنوفل أبورغيف\r\n\r\nالدفاترُ مركونةٌ\r\n\r\nوالصباحاتُ خابيةٌ\r\n\r\nوالمساءُ غريبْ \r\n\r\nالشوارعُ مأهولةٌ بالفراغ\r\n\r\nوالمواعيدُ منسيَّةٌ\r\n\r\nوالغيابُ فَسيح \r\n\r\nالطريقُ إلى الحُزنِ سالكةٌ\r\n\r\nلكنَّ الطريقَ الى شارعِ المتنبي موحشةٌ كئيبة ، والمدائنُ مخنوقةٌ بالحواجزِ ،\r\n\r\nوالشهورُ طوابيرُ من قَلَقٍ بانتظارِ السماحَ لها بالمرورِ \r\n\r\nوبغدادُ أكثرُ صمتاً ،\r\n\r\nوأوضحُ هَجراً ،\r\n\r\nوأشجى ،\r\n\r\nلابوصلةَ تشيرُ إلينا\r\n\r\nولا أحدَ يزدحمُ على بوابات الزوراء ،\r\n\r\nمشهدٌ مختلف \r\n\r\nفالأزقّةُ أوسَعُ \r\n\r\nوالجسورُ المهيبةُ بينَ الرصافةِ والكرخِ تبسُطُ أذرُعَها كي يَمُرَّ النهارُ بلا شاهد ٍ، والنخيلُ قصائدُ صَبْرٍ قَديم .\r\n\r\nكنّا بالأمسِ نعودُ محمّلينَ\r\n\r\nبصخبِ النهاراتِ\r\n\r\nوتَعَبِ المَشاوير\r\n\r\nلنَزرَعَ ليلَ الدَفاترِ بوحاً شَقيَّاً\r\n\r\nنُعَتِّقُهُ للسُهاد ،\r\n\r\nونجمَعَ مارمّمناهُ من خرابِ السياسَةِ ، نُرسلُهُ للجَريدَةِ ونرقُبُ صُبحَ الخميسِ \r\n\r\nنُمعِنُ في تَسجيلِ مَلامحِ البلادِ الغارقةِ بالموتِ حدَّ الأمل ،\r\n\r\nولم يكن الوقتُ يَكفي .\r\n\r\nكانت الكتابةُ تصاحبُنا كأقدارنا\r\n\r\nوتُوخزنا حينَ نَغفَلُ عنها ،\r\n\r\nوفي الشهورِ الأخيرةِ ، قبل قراراتِ حَظرِ الحياة ، كانت المعاني تغصُّ بالذهول ، وهيَ تُحَدِّقُ في الساحاتِ والمباني المُكتَّظةِ بمشاهدِ الوجعِ المزمنِ والشهداءِ .\r\n\r\nالشهداء \r\n\r\nهاجسُ العراقِ العنيدُ ووصيتُهُ الكبرى.\r\n\r\nإنَّهُ الموتُ المزمنُ الحميم الذي نبتَ هنا مذ كانَ مقرُ الشمسُ الدائم مابينَ النهرين .\r\n\r\nوأمّا الذينَ طوتهم تلكم العقودُ الثِقال ، فقد استكملتهم القادسيّات والحصاراتُ ، ثُمَّ أسلمت المتبقّي الى مواكبُ زفاف الحشدِ لتَحطَّ الرحالَ في ساحاتِ تشرين .\r\n\r\nوهاهي المنايا تتجوَّلُ بين ردهاتِ المَحجورين بحثاً عن الهواء ، لتطفئهم صوتاً صوتاً.\r\n\r\nفهكذا يبلُغُ الشبابُ ذروتَهم في بلادنا \r\n\r\nكيفَ إذن نَقْنَعُ بالانتظارِ ونحنُ نريدُ الكتابةَ عن كلِّ هذا الغياب السحيق ؟\r\n\r\nكيف ؟؟ والكتابةُ مُرجَأَةٌ ،\r\n\r\nوالكلامُ مصابٌ كأيامنا بالدوار ،\r\n\r\nونوباتُ الهلَعِ تطوِّقُ الأعمارَ بينَ اللحظةِ واللحظة .\r\n\r\nفحينَ يصبحُ الموتُ بديلاً عن أحلامِنا القديمةِ المؤجّلةِ أصلاً ،\r\n\r\nوتَصيرُ الكوابيسُ صديقاً قسرياً ، ويُستَبدلُ صخبُ العيدِ بوحشةِ الإنزواء بين الغُرَفِ والجدران ،\r\n\r\nمن سيفزِّزَ المعنى؟\r\n\r\nويوقظُ الحروف ؟\r\n\r\nوكيفَ نؤثِّثُ وحشةَ الكتابةِ المطبِقَةَ على الجهات ؟\r\n\r\nإنهُ الموت \r\n\r\nالموتُ الذي يتقنُ قطافَ العراقيينَ منذ بدءِ التاريخ ،\r\n\r\nكانَ كريماً معهم وكانوا مخلصينَ لهُ ، فكانَ تراثُهم حائطَ المبكى ومذبحَ اسماعيلَ و سبيَ كربلاء و خرابَ المغول و المشانقَ و أحواضَ التيزاب وسبايكر و آمرلي وداعش و الاغتيالات والطرفُ الثالث ، ويَمتَدُّ الموّال \r\n\r\nالموتُ أم انتظارُهُ ، لافرقَ \r\n\r\nفقد اختلطَ بيومياتنا التي ماانفكَّت تنفضُ عن نفسها وجعَ العُمرِ وتحلِّقُ مشدودةً الى قوافِلِ الغَيم.\r\n\r\nهو الموتُ نفسُهُ الذي تعرَّفنا إليهِ قبلَ أن ندركَ معناه .\r\n\r\nلكنه هذهِ المرّةَ يراقبُنا بشَغَف ،\r\n\r\nيختبئُ بيننا ،\r\n\r\nيتصيَّدنا ،\r\n\r\nيكمنُ لنا في كل مكانٍ ،\r\n\r\nيحصدُ من يشاءُ كيف يشاء .\r\n\r\nوبينما يتغيَّرُ شكلُ العالمِ وتنطفئُ الفناراتُ الأزليَّةُ على حينِ غُرَّةٍ في زمانٍ عسير ،\r\n\r\nولا أثمنُ من العُزلةِ والقطيعةِ بحثاً عن عشبةِ البقاء \r\n\r\nيراودُنا قلقُ الكتابةِ وسؤالُها الكبير :\r\n\r\nكيفَ نرمِّمُ اسماءَنا الخاوية ؟\r\n\r\nوكيفَ نأوي الى دفاترنا الحميمةِ وسطَ هذا الوجومِ ؟\r\n\r\nمن ذَا يعيدُ إلى النهاراتِ بهجتَها في زحمةِ الموت ؟\r\n\r\nشهورٌ ثِقالٌ ،\r\n\r\nوأمنياتُ كليلةٌ ولاشئَ أغلى من هواءٍ نقيٍّ لا يحملُ الموت .\r\n\r\nلم نعُد نتصافَحُ ، أو نتسامَرُ مع هواجِسنا القديمة أو نلتقيها عندَ دجلةَ في المساء .\r\n\r\nصرنا نَشتاقُ لأطفالنا كلَّ حينٍ ،\r\n\r\nنبوسُ أياديَهم نتصفَّحُهم نستنشقُهم ، كمن يودِّعُ أحبَّتَهُ ذاهباً الى الحرب .\r\n\r\nلم تعُد في الحياةِ منقبةٌ سوى الحياة ولم يبقَ متَّسعٌ في القصيدة .\r\n\r\nالأَقربونَ يغادرون تِباعاً ،\r\n\r\nالصَفَحاتُ مآتمُ ، والمنصّاتُ مثقلةٌ بصورِ الراحلينَ ورائحتهم وضحكاتِهم التي نسوها على أرصِفَةِ العُمرِ وراحوا \r\n\r\nلكننا سنكتُبُ حتى الرمق الأخير .\r\n\r\nفالكتابةُ واجِمَةٌ حتى حين ،\r\n\r\nوالكتابةُ كامنةٌ في الصَمت ،\r\n\r\nالكتابةُ في نشراتِ الأخبارِ المهووسةِ بإحصاءاتِ الغيابِ وأنصافِ الموتى وعناوين الحزنِ والخوفِ والمقابرِ والمستشفيات .\r\n\r\nالكتابةُ عالِقَةٌ بين شفاهنا الناشفةِ وفي مُقلِ الأمَّهات \r\n\r\nعصيَّةٌ لاتطاوعُنا\r\n\r\nتريدُنا وننتَظِرُها ولاتأتي ،\r\n\r\nفلاهي تتجلّى\r\n\r\nولاهي تَقبَلُ الاستسلام .\r\n\r\nوحدَهُ اللهُ من يَربِتُ على أكتافنا وسطَ هذا الهَلَعِ الذي يهدّدُ الجميعَ بالموتِ خنقاً ،\r\n\r\nوحدَهُ اللهُ من نلوذُ بهِ ونقفُ في بابهِ آمنين .\r\n\r\nوحتى الذينَ يعاندونَ أو يُصرّونَ على التمرُّد والتيه ،\r\n\r\nفإنهم يقرّونَ اليومَ ويعكفونَ على العودةِ إليهِ ذاهلين .\r\n\r\nوهكذا تَنقَضي الأيامُ وتتساقطُ الساعاتُ وتَحتَرِقُ الأماني \r\n\r\nوكلُّ الذي فوقَ الترابِ تُرابُ.\r\n\r\nفكيفَ للكتابَةِ أن تَجدَ ضالتَها وماذا يمكن أن يرسمَ الشعراءُ أو يقولَ الرسامون ؟\r\n\r\nفي السياسةِ كما في التجارةِ ،\r\n\r\nوفي البيتِ كما في السوق ،\r\n\r\nوفي الأحلامِ وفي اليقظةِ وفِي الغياب ،\r\n\r\nلا شئَ يشي بالفرَحِ ، ولا حروفَ يتشكّلُ منها البوحُ الذي نلوذُ بهِ أو نتطلَّعُ إليه .\r\n\r\nإنها محنةُ الكتابةِ في زمنِ كوفيد \r\n\r\nالوقتُ يمضي سريعاً ،\r\n\r\nوالحياة برمَّتِها قِصاص .\r\n\r\n\r\n\r\n النص منشور في جريدة العالم بعددها الاخير ٢٥١٩ الخميس . ---------------------------------- المقالات أضيف بواسطة : Hussein المشاهدات : 5506 تاريخ الإضافة : 2020/09/27 - 3:16 PM آخر تحديث : 2024/03/29 - 8:27 AM https://nawfalaburgeif.com/content.php?id=290 ---------------------------------- الدكتور نوفل هلال أبو رغيف NawfalAbuRgeif.com