بمقولتهِ الشهيرَةِ : (( لن تبلغَ من الدينِ شيئاً حتى توَقِّرَ جميعَ الخلائق)) يجتَرحُ ابنُ عربي منصَّةَ الحديثِ في هذا السياق ، فتتقدَّمُ العديدُ من الأسئلةِ الأساسيَّةِ في كيفيَّةِ الانهمامِ بترسيخِ ثقافة الحوار وإرساء معالمها الانسانيةِ ولاسيما في مجتمعاتنا العالم ثالثيَّة ، وفي تحديد وسائل السعي إلى تفعيل الحوار بوصفهِ قيمةً ثقافيّةً عليا ، لجعله سلوكاً مثمراً بنّاءً ، لا حواراً شكلياً استهلاكياً حسب ، وكيف يجدُرُ العملُ بالضد من ثقافةِ الإقصاء والاستئثار ، عبر تقديم بديل ناجز عنها ؟
ثم يحضرُ السؤالُ الأهم عن كيفية إسهامنا جميعاً في إشاعةِ روحِ التسامحِ وحسن الظن ، وجعل القبول بالاخر أسلوباً منشوداً للحياة وطريقَ عملٍ يقود إلى بناء المجتمعات التي تتطلع إلى العيش بسلام ووئام وتحترمُ قيمَ الحوار وتركنُ إليهِ في أعقدِ ظروفها وتحولاتها .
ويتبلورُ الإيمانُ بهذا السلوك بدءاً من الإقرار بمبدأ التجاور / التوازي ، والإقرار بالتنوع أياً كان شكله ومؤداه ، فكرياً أم دينياً أم اجتماعياً أم غير ذلك من أشكال التعدد والتجاور والاختلاف ؟
إنَّ نجاح أيٍّ من المجتمعات الحيَّةِ ، لايمكنُ ترسيخُه وتشييد مبانيهِ من دونِ العملِ على تفعيل ثقافةِ الحوار وإشاعتها بنَحوٍ عملي يطمَئنُ له أصحابُ العلاقةِ الفعليون .
وقبلَ أن نشرعَ باقتراحِ الأدوات ، وتحديد الخطوات التي نأملُ أن تكونَ دليلَ عملٍ لبسطِ ثقافة الحوار ، يتوجبُ الإستنادُ أولاً إلى مشتركٍ جوهريٍ مفادُهُ أن الأديانَ السماويةَ على اختلافها وتعاقبها ظلّت تدعو الى ثقافة الحوار وإعمالِهِ وتكريسه ، ولعل المصداقَ الرئيسَ لذلك يتجلّى في قوله تعالى (ادعُ إلى سبيلِ ربكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسَنَةِ وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضَلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النحل:125)، إذ يمثلُ ماجاءَ في الآية الكريمة مصداقاً مباشراً لما ذكرنا ، ولا يبتعدُ كثيراً عن هذا المفهوم ، ماجاء في الإنجيل :( في البدء كانت الكلمة) (أنجيل يوحنا 1:1)، والشواهدُ كثيرةٌ على أصول الحوار والجدال الحَسَن والكلمةِ الطيبةِ وصولاً إلى سواءِ السبيل ونقاط الإلتقاء .
وليسَ ببعيدٍ عن الأديان السماويةِ وما ضمته تعاليمها من أخلاقيات الحوار واختلاف الرأي والجدال ، فإنَّ النظرةَ الفاحصةَ القائمةَ على استقراءِ التاريخِ الفلسفي الشاسعِ وإن بنحو الإجمال ، ستؤكدُ بأنَّ كبارَ الفلاسفة اعتمدوا الحوارَ أساساً للوصول إلى المعرفة ثم تعليمها وإعادة انتاجها بنحوٍ شاخص ، على غرار مانجدهُ عند سقراط الذي اعتمد مبدأ الحوار أساساً لذلك ، وليس هو بالأنموذج الوحيد في هذا الاعتماد ، لكنه شاهدٌ كبيرٌ على هذا الفهم الراشد ، وكذا الأمرُ بالنسبةِ لتراثنا العربي الضخم وليس أدلَّ على ذلك من مقولةِ أبن عربي التي جعلناها تتصدر هذا العنوان: (( لن تبلغَ من الدينِ شيئاً حتى توقِّرَ جميعَ الخلائق )) فهي تحملُ في ثنياتها مفاهيمَ الانفتاح على الآخر وتنبذُ الانغلاقَ ، وأزيدَ من ذلك ، فهي تجعلُ من احترامِ الآخر ومن عدمِ الانتقاصِ منه وعدم الاستصغار ، أساساً أخلاقياً ومعياراً للدين ، شأنه في ذلك شأنُ بقيةِ الاركان الأخلاقيةِ للدين وشرائعهِ وضوابطه .
ولعلنا بعدَ هذا العرضِ المجمَل يمكننا الخلوصُ إلى أنَّ الأديانَ السماويةَ والتاريخَ الفلسفيَ والتراثَ العربيَ لم يخلُ أيٌّ منها من الإشارةِ الواضحةِ والتأكيدِ على القيمةِ التي تحملها ثقافةُ الحوار ويؤكد عليها العارفون ، وتترجمها المجتمعات الساميةُ بالتكافؤ الانساني واحترام الآخر وتوقيره والابتعاد الكامل عن نبذه مهما اختلفت الظروف والمعتقدات ، وهو مؤشرٌ دلاليٌ صريحٌ على القيمة الإنسانيةِ التي تحملها هذه الثقافةُ وما يمكن لها أن تحققه من تقاربٍ يقومُ على المشترك الإنساني قبل كل شيء ، فضلاً عن الوجه الحضاري المشرق لهذه الثقافة.
من هنا فإنَّ لزاماً على المعنيينَ ، استكمالُ ما أسَّسَهُ الأولونَ وجعلوهُ دليلَ عملٍ لحاضرنا المبتلى بمشاكل الآخر والحوار ، والتسابقُ لإرساءِ هذه الثقافةِ وتعزيزها بما يتلاءم وطبيعةَ التعددِ والاختلاف والتناظُر التي برزت بحدَّةٍ في مشهدنا القائم الذي باتَ يمثلُ حقبةً معقدةً عسيرةً من تاريخ العراق والمنطقة العربية والعالم .
ويمكنُ أن نوجزَ أكثر الخطوات - التي نعتقدُ بأهميتها - لترسيخ ثقافة الحوار وتفعيلها بما يأتي :
أولاً: التنشئة الأُسريَّة وهي اللبنة الأساسيةُ التي يمكن للفردِ أن يتعلَّمَ منها صيَغَ الحوار وسياقاتِ الإصغاءِ الى الآخَر ، فالتعنيف الذي يتعرضُ لهُ الأطفالُ والأساليبُ القسريةُ بحق الأبناء ، ستقود بالمحصلة إلى انتاج جيلٍ أُحادي الرؤيةِ غيرِ قادرٍ على استيعاب الآخر ، بحكم الاضطهاد الذي كان يعاني منه سلفاً ، ومن ثم فإنهُ قد يجدُ فيه عدواً وخصماً ، ليمارسَ بحقه اسوأَ أشكال الاضطهاد والإقصاء التي شهدها في طفولتهِ .
ثانياً : التركيز على إعدادِ المناهجِ التربوية التي تؤهل الطلبةَ باختلاف المراحل الدراسيةِ ، لتقبُّل ثقافةِ الحوار ونبذ التسلط وهيمنة الرأي ، وتحبيذ قيم التسامح والتأكيد عليها منهجاً وسلوكاً ولاسيما من قبل التربويين القائمين على تدريس هذه المناهج وإعدادها .
ثالثاً : تعزيز فكرة التبني الكامل لثقافة الحوار بوصفها عاملاً جوهرياً في بناء المجتمعات وليست ترفاً فكرياً أو حاجةً ثانويةً ، فهي طريقةُ حياةٍ وأسلوبٌ في التعامل الحضاري والعيش بسلام ، ومن هنا كان على السياسيين وهم المعنيون بإدارة انظمة المجتمع ، والقائمون على صناعةِ واقعهِ الإداري ، سواءً أكانوا سلطاتٍ تنفيذيةً أم تشريعيةً ، العملُ على إرساءِ هذه الثقافة وتثبيت دعاماتها ، ليكونوا أنموذجاً لغيرهم ، لا أن ينتهج بعضهم مهاجمةَ الآخرِ والإجتهاد في إقصائهِ باتِّباعِ أساليب التسقيطِ والتجريح والهبوطِ الى لغةِ الطعن والتخوين ، وجعلها معياراً لانجازاتِ الغَير ، في وقتٍ يجدُرُ معهُ تجاوزُ هذه الخلافاتِ عبر احترام الآخر ودعوته الى الإندماج والتواصل والمشاركة في بناء المجتمع بسلاسة وانسياب.
رابعاً : رفض ماتعمد إليه بعض النخب الثقافية من فوقية الترفع وإعلاء الذات ، وتغييب الآخر ، متناسينَ أن العتبةَ الأولية لفهم الآخر هي معرفةُ الذات وعدم الانغلاق عليها ، والسعي إلى الانفتاح غير المشروط ، لخلق بيئة صحيّةٍ للتعايش السلمي على قاعدةِ (الذات والآخر) .
خامساً : الحيلولة دون انتهاج الاضطهاد الفكري سواء أكان من جهةٍ سياسيةٍ أم ثقافيةٍ أم دينية أم غيرها ، والعمل على تعزيز هويَّة المواطنة الحقَّة ، وانتهاج السلوك الإنساني بإزاء الآخر مهما كان اختلافه ، بجعلِ المشتركِ الانسانيِ نقطةَ التقاء المشتركات المركزية بين بني البشر .
سادساً : حثُّ المنظمات المدنية ومساندتها لتأدية دورها في التوعية بأدب الحوار وقبول الآخر ، وعدم المساس بقيَمِهِ أو تسفيه آرائه ، مهما بلغت حِدَّةُ التقاطع بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد .
سابعاً : إرساء قيم الاعتدال والوسطية وإشاعة ثقافة المحبة وإحسان الظن ، بلازمِةِ الرأي عن الاستغفال أو الاستصغار ، اللذين يعطيانِ نتائجَ أكثرَ سلبيةً بدلاً من ردمِ هذا السلوك السلبي .
ثامناً : ولعلها الخطوةُ الأهم في ضوء ماتشهدهُ المنصّاتُ من صخبٍ واختلاط لليابس بالاخضر ، وتكمنُ في الابتعادِ عن الحوار غير المتكافئ ، الذي يقوم على الجدال العقيم والتماحك المشخصن ولايفضي إلى مايتوخّاهُ الأُفقُ الموضوعي ، فتَنبِذُ الزعيقَ والحوارَ المنفلت مهما كانت الذرائع والمبررات ، فثمة محدداتٌ اخلاقيةٌ وثقافيةٌ تبقى ملازمةً لمساحات الحوار ، إذ تنتهي حرية الذات عند حدود حرية الآخر .
وقد لاتكون هذه النقاط المحورية جامعةً شاملةً للوسائل والخطوات الكلية التي يمكن اتخاذها مدخلاً إلى مجتمع سليم معافى من الأمراض الفكرية والسلوكية والعُقَد المزمنةِ التي تحكمها الهيمنةُ والأُحاديةُ والحسدُ والدونيَّةُ والفوقيَّةُ وأَضرابُ ذلك ، إلا أنها تمثلُ خطوةً أوليةً باتجاهِ تفعيل ثقافة الحوار عبر رؤية أردنا لها أن تسهمَ في بناء هويَّةِ الوطن والمواطنِ على حدٍّ سواء ، مشتركين ومتشاركين في الرابط الإنساني قبل كل شيء.