


في زمنٍ صارت فيه التقنية قادرة على صناعة الأكاذيب بمهارةٍ تفوق قدرة الصدق على الدفاع عن نفسه، يطلّ نوفل أبو رغيف، لا بوصفه مُتهماً، بل شاهداً على أن الضمير حين يتجسّد إنساناً، يبقى أقوى من كل برمجيات التزييف.
لقد صنعوا له صوتاً في مختبرٍ رقميٍ معتم، وأطلقوه إلى الفضاء الافتراضي ظنّاً منهم أن موجةً مصطنعة قادرة على اغتيال سيرةٍ من النزاهة والوعي.
لكنهم نسوا أن الصدق لا يُستنسخ، وأن الحقيقة لا تُروى بلسانٍ مزيف.
فالنغمة يمكن تقليدها، أما المعنى فلا يُقلَّد.
لم يستهدفوه لأنهم وجدوا فيه ضعفاً، بل لأنهم اصطدموا فيه بقوةٍ نادرة: قوة رجلٍ أدرك أن الإعلام حين يضيع بوصلته، تضلّ معه الأخلاق، وأن الحرية إذا لم تُصن بضمير، تتحوّل إلى سلاحٍ ضد الوطن.
نجح الدكتور نوفل أبو رغيف في أن يجعل من هيئة الإعلام والاتصالات مؤسسةً تُعيد ضبط الإيقاع الأخلاقي للإعلام العراقي، فشعر العابثون بأن زمن الفوضى بدأ يضيق عليهم، وأن يد الإصلاح تمدّ ظلالها على مساحاتٍ طال احتلالها بالابتذال.
ولأنهم لم يستطيعوا مجابهته بالحجة، اخترعوا له صوتاً، لعلهم يُسكتون به ضميره الذي أقلقهم.
إن الذين عرفوا نوفل، يعرفون أن صوته الحقيقي لا يُسجّل على شريط، بل يُقرأ في مواقفه، وفي حضوره الثقافي الذي لم يعرف التلوّن ولا المجاملة.
هو شاعرٌ تدرّب قلبه على الحقيقة أكثر مما تدرّب لسانه على البلاغة، ومسؤولٌ امتهن النزاهة لا الخطابة.
يمشي بين الثقافة والإدارة دون أن يخلع ضميره عند باب المؤسسة، ولهذا يهابونه.
فالنزاهة حين تتحرك بثقافةٍ لا تُشترى، تفضح كل من يجمّل الفساد بعبارات الإصلاح.
العراق اليوم يعيش واحدةً من أكثر معاركه تعقيداً: الفتنة الرقمية، حيث لم يعد الخطر في من يتكلم، بل في من يصنع الكلام من العدم.
تُدار الحملات بخوارزمياتٍ مجهولة، وتُختلق الأصوات بذكاءٍ بلا ضمير، ويُستهدف وعي المواطن قبل رأيه.
لكن وسط هذا الصخب الصناعي، يبقى هناك صوتٌ واحدٌ لا يُقلَّد: صوت الإنسان حين يصدق.
إن محاولة النيل من السيد نوفل أبو رغيف ليست إلا دليلًا على نجاحه؛ فالفاسد لا يهاجم إلا من يهدده بالحق، والمزيّف لا يخشى إلا من يقول الكلمة الصادقة بثبات.
ولهذا، فإن هذه الحملة ليست امتحاناً لنوفل، بل شهادةٌ له: شهادةٌ على أن الصدق ما زال ممكناً في وطنٍ أرهقته الأصوات المصنوعة.
قد يصنع الذكاء الاصطناعي صوتاً يشبه صوته، لكنّه لن يصنع روحه، ولن يُحاكي تلك البصمة الإنسانية التي تُميّز الكلمة حين تخرج من ضميرٍ نقيّ.
فالروح، لا التقنية، هي التي تمنح المعنى صداه الحقيقي، وهي التي تجعل للكلمة وجهًا يُشبه صاحبها.
نوفل أبو رغيف لم يكن ضحية تزييفٍ رقمي، بل شاهداً على زمنٍ يختبر فيه الصدق في مختبرٍ بلا ذاكرة.
ومهما تنوّعت أدوات الافتراء، سيبقى القول الذي لا يُقلَّد هو دفاعنا الأخير عن المعنى، وعن الإنسان، وعن العراق.