الجمعة 2025/1/3
(صحيفة عاجل مصر )....فاعلية الإبداع والرؤية النقدية قراءة في كتاب (وعي التجربة والتجديد في شعر نوفل أبو رغيف) بقلم: الناقدة م.زينب عذافة المالكي


(صحيفة عاجل مصر)

https://3agelmasr.com/post/?p=175603 

 

إن ابتعاثَ النصوصِ عبر القراءة دليلُ الوشائج القائمة بين النص والمتلقي ، فالتعاطي المتبادل بين النص والتلقي يفضي بنا إلى الخاصية الانفتاحية للنصوص ، لما يمتلك من قوة جذب القراءة إليه، بفعل عوامل التأثير الموجهة في مناغمة المدركات الحسية والذهنية والانفعالية في الذات المتلقية.
وعلى الرغم من ذلك فليس كل النصوص تنماز بفاعليتها على الجذب ، لأن (( جوهر العملية الأدبية إنما يتكرَّس بعرض القيم والافكار التي تشتمل على رؤى جديدة ذات طابع فني جديد يلبي طموحات التلقي، ويعرض بفرادة مضمار رؤاه الفنية ، وإنما استجابة لفكر زاخر بالخلق والإبداع))15، فلابدّ من تلاقح الأفكار مع المعاني في الإبداع النصيّ ، وهذا ما رصده الناقد (د. سعيد حميد كاظم ، في كتابه المتوهج بملامح الإبداع والتجديد في شعر نوفل أبو رغيف ) ، فالنصوص تستمد ديمومتها في التجديد والتغيير على مستوى الرؤى والأفكار وعلى المستوى الفني، فالتجديد هو ما يمنح قوة الجذب التي تستهوي المتلقي وتجذبه إلى النصوص ، فالنصوص التي تمتاز بالنمطية والتقليدية ليست ضمن مضمار عناية المتلقي الناقد، لأنّها قد استهلكت بما يكفي ، فالناقد يحاول التقصّي والبحث عن كوامن النصوص العصية التي تثير فضوله وحواسه، فنراه كالغواص الذي يحاول العوم إلى أعماق البحار كي يبحث عن ضالته، وهو يسعى للبحث عن اللؤلؤ المكنون والدر المنثور ، فالإبداع والتجديد هما من يمنح الحياة إلى النصوص ، وينقذها من الأفول والاندثار في ذاكرة النسيان والإهمال .
ويقتنص الناقد بحذاقةٍ محدّقًا صوب فكرته مختارًا سبيل الفكرة ذات الجذوة المتوهجة؛ كون الإبداع عملية مدروسة من قبل المبدع أو الشاعر موضع الدراسة ، إذ لم تكن الانطلاقة الابداعية الموجهة وليدة الصدفة أو الاعتباط ، إنما ناتجة عن وعي المبدع لرسم آفاق متعددة لإدهاش القارئ _ على وفق تعبير الناقد_ ليسقط رؤيته تلك على النتاج الشعري للشاعر الذي انماز بالوعي الفكري المدروس الموجه نحو المتلقي لإثارة الوعي الذهني ، لأنه المرتكز الذي تستند عليه العملية الابداعية (( ولعل في طروحاته الفكرية طموحا يوافق التطلعات التي تركن إلى التغيير ، من خلال تدعيم الأسس السليمة والعمل على تقويض النزوع للاستسلام والخنوع ، كذلك أن وجود الإرادة قد تجلت بوجود الإنسان ، لذا فهي الدافع على تحقق التغيير )) 21، فالعملية الإبداعية قد تمتعت بخلخلة البنى التقليدية التي لم تعد تستهوي المتلقي الناقد ، لعدم مواكبتها لروح التغيير الذي منح الديمومة والحياة للنصوص الإبداعية، لذا اتكأ على (( الصورة الشعرية المتوزعة بين الدلالات وكناياتها ، وترف اللغة التي تتركب منها هذه الصورة التي تشبه ما تقدمه قصيدة التفعيلة ، وتحملها بعض نصوص قصيدة النثر ، ثم هي تركز على اللغة بعدِّها قطب الرحى ومركز الإضاءة في الوعاء الذي يستوجب خلاصته الأداء الشعري ))23 ، وعلى الرغم من أن الناقد صوّب رؤيته نحو الإبداع في المنجز الشعري للشاعر ، وما يمتلكه النص من قوة الجذب والتأثير عبر التجديد والتغيير، نجده لا ينحو بالإبداع عن الرصانة والأصالة ، وهذا ما وجده بالأنموذج موضع الدراسة، الذي انماز بالجمع بين الأصالة والتجديد، إذ استمد الشعر إصالته من إعادة القيم التراثية والتمسك بالموسيقى والايقاع والوزن ، إلا أن استثماره لكلّ ذلك بدا مجددًا ومغايرًا عن المألوف مما يمنح نصوصه الشعرية الحركية التي تؤسس لانفتاح النص نحو المتلقي .
ومما لا يخفى أنّ الناقد ترصّد مكامن الإبداع التي قد لا تكون مبتكرة ، غير أنّها وظّفت بشكلٍ مغاير لتتوالد عبرها الدلالات والمعاني الجديدة، التي أسقط الشاعر عبرها رؤيته المستمدة من الواقع ، وأولى تلك المكامن هي اللغة ، فإيحائية اللغة في الإبداع الشعري، الركيزة الأساسية التي تمنح النص حركيته لأنها حاملة النص الشعري.
ولعل ما منح هذه الايحائية قوة الجذب لدى المتلقي، كذلك أن انتقاء تلك المفردات التي نجح المبدع في انتقائها كان لها الأثر الشاخص في بلورة المعاني المتجددة؛ إذ منحته القدرة على تجلي المعاني المقصودة وترجمة رؤاه ، فضلا عن الرمز الذي يعد ضرورةً من ضرورات النصّ الشعري ، وعبر ذلك كلّه تمّ الربط بين الواقع وصوت المبدع وما يطمح إليه ، والملفت للنظر أنّه تمّ توظيف تلك الايحائية في اللغة في الاقناع، عبر ربطها بالتصورات الذهنية حول الوجود والواقع الذي ترجمه السؤال والاستفهام ، تمّ استثمارها في ترجمة نزيف الذات في تداعي اللاوعي عبر الذاكرة الحية ، الأمر الذي عكس التجربة المريرة التي مر بها الشاعر مما حدا به إلى التمرد والتجريب والتنقيب الفكري ، وقد يحيلنا ذلك لما اسماه الناقد (البيان الذاتي ) ،إذ كانت الذات المبدعة قد تجلّت في النصّ الشعري ، بواقعها، بألمها، بسؤالها ، بطموحاتها ، بإصرارها، وثباتها ، ” فكانت البيانات الجزئية لحياته قد وجدت مركزيتها في مضمون أشعاره ” فقد حملت الشيء وضده لقتل حيادية النص وتبعده عن الاغتراب على وفق تعبير الناقد .
ويعرّج الناقد إلى تنقّل الذات المنبثقة في رؤى الشاعر، فكانت منشقة عن نفسها في الصراع الذي احتدم في خضم النص ، وهيمنة الذات وتعاطيها مع الواقع الذي امتاح من الصورة التي ما انفكت أن تنهل من واقعها على مستويات عديدة من ألوان الصراع ، الذي عكس تجربة الشاعر ومواكبته لكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية ، ممّا جعل الذات تصطرع في داخلها معلنة ثورة تجلّت في ثورة مغايرة عبر التجريب والتغيير على مستوى النصّ الإبداعي، الذي ينهل من صراع الذات في واقعها ، إذ تمخّضت عنه الرؤى المتسعة الآفاق التي اتسمت بالصدق وقوة الفكرة وقدرتها على الجذب لانفتاحها نحو المتلقي لتستميله وتستثيره بوعي منه أو بدون وعي .
وبهذا فإننا نقف مع الناقد على ربوة إبداعية أخرى، تجلّت في النصوص الشعرية للشاعر الأنموذج موضع الدراسة ، إلا وهو القصص الشعري أو القصص في النص الشعري ، وأوضح الناقد أنه لا يتناول ذلك تحت مظلة السرد ، (( بل أعني أن النصّ الشعري قد تشكّلت صوره القصصية عبر تشكيل شعري بارع ، فكانت مجموعة أبيات عديدة قد نسجت روعتها لقصة قصيرة تبلورت رؤيتها فتضمّنت حدثًا وشخصيةً وزمكانًا)) 100 ، وعلى الرغم من أن الشاعر لم يتقدّم سابقيه في هذا التشكيل الإبداعي ، فقد سبقه إليه شعراء عرب وعراقيون منهم جبران خليل جبران وايليا أبو ماضي ويوسف الصائغ، إلا أن الناقد يرى بأن التصوير القصصي قد تناغم مع النصّ الشعري ، ولم يجانب الشعرية إلى التقريرية أو المباشرة ، بل كان القصص الشعري نسجًا متواشج الرؤى ، ممّا منح النص قوة الجذب لاستمالة المتلقي ، ومداعبة خياله ، فضلًا عن تعاطي القصص الشعري مع الواقع ، الذي جسّد هموم وآلام مجتمع لا على مستوى الذات والفرد إذ ((.يستعمل الشاعر أسلوبًا عادة ما يؤدي بطريقة الحوار المكثّف الزاخر بالمعاني والدلالات على أن يحكمه الطابع الأدبي الذي تتأجج فيه العواطف والأحاسيس ، إذ تتحاور الشخصيات ، مما يولّد قناعات ذات نزعة جماعية إلى ضرورة الانتباه والتركيز لتلك المحاورة ، بل لابدّ من الانخراط في هذا النسق الجمعي والامتثال لإرادته ومتطلباته))101. أمّا على مستوى الجمال والدلالة فقد رصد الناقد مكامن الإبداع الجمالية في نصوص الشاعر ، وذلك في الفصل الثاني من الكتاب ،فالجمال لايمكن أن يتقيّد بالأطر المألوفة بل يتعدى ذلك إلى البنية النحوية التي من الممكن التعاطي معها بشعرية غير مألوفة لا تقتصر على الأساليب البلاغية فحسب، بل تنطلق من قوة وجمال الفكرة والذات التي تلقي بظلالها على النصّ ، فتتجسد لوحة رسمت صورها عبر الكلمات وانسجام المفردات الشعرية والتكثيف تفضي إلى كسر أفق المتلقي ، فتدهشه بغموضها، وعمقها، ورؤيتها المتوارية ، فيتم التعاطي مع النص لإنتاج نصًا مغايرًا يكون سببًا لديمومة النصّ الأصلي وسببًا في بقائه على قيد الحياة . لقد رصدت بصيرة الناقد العنوان بوصفه دالًا معرفيًا ،والعنوان من العتبات النصية التي تحيل إلى النص ، وتناولته الدراسات المعاصرة سيما الدراسات السيميائية ، إذ تناولت العنوان بوصفه علامةً تحيل إلى النص ، والعنوان يحمل على عاتقة تسمية وتعيين النص وكينونته وهو النقطة الشرعية التي بموجبها يتم الانفتاح إلى النص .ولأهمية العنوان في الأعمال الإبداعية للشاعر ، فقد سلّط الضوء عليه الناقد لما يحمل من سمة إبداعية تتصف بالعمق والإيحاء وذلك في عنوان مجموعته الشعرية ( مطر أيقظته الحروب ) ، نسج الناقد علائق بين دلالة العنوان وبين الصورة وماحول الصورة في واجهة الغلاف، كما سلّط الضوء على التعالق النصي بين العنوان والنص من جهة وبين العنوانات الداخلية من جهة أخرى ، كي يدلي بدلوه ويثبت القيمة الفنية والجمالية للعنوان في أعمال ( الشاعر أبو رغيف( وفي محورٍ آخر يلمح الناقد ما أسماه الصمت الشعري ، الذي يتقابل مع الحوار المنطوق ، ويعدّه محورًا مهما في استثارة التلقي وإثارة فضوله ،ممّا يفضي إلى العديد من التأويلات والقراءات ؛لما يمثّله من قوةٍ ايحائية عميقة وهنا إشارة دالة إلى المسكوت عنه في النصّ؛ لأن الصمت الإيحائي يفضي إلى دلالات عميقة ، تتمركز في الوعي الذهني للشاعر ، وينجح في امتدادها نحو المتلقي لإثارة فضوله حتمًا ، أو لتحريك مخيلته واستثارة مدركاته الذهنية . وفي صميم العملية الإبداعية الشعرية يغترف الناقد الدكتور سعيد حميد غرفته ليدلي بها نحونا، فإذا بها الانسيابية الايقاعية والانسجام الصوتي ، إشارة إلى الموسيقى الداخلية للنص ، إذ يجد الناقد أن نجاح الشاعر في إبداعه، إنّما يكمن في استثماره للصوت والتناغم الحاصل بين دلالة الصوت والحالة الشعورية التي قيلت فيه من جانب، وتآلف الاصوات فيما بينها من جانب آخر، ليصل بالموسيقى الى المستوى الهارموني ، لإثارة أذن السامع ومداعبة مشاعره وأحاسيسه ، فنجد المتلقي ينجذب لا شعوريًا للنغم المنبعث من الإبداع الفني ، كما أن مكامن الإبداع تتجلى في الائتلاف بين الموسيقى الداخلية والخارجية التي تتوافق مع الحالة الشعورية للشاعر ، وهذا التناغم الذي يدركه المتلقي في ذهنه وعواطفه ، إنّما هو نتاج التعاطي والتفاعل التام بين المبدع ونصه ، وتمكنه من أداته بما يعزّز التوتر الحاصل على مستوى الحواس ، والجذب النفسي ، الذي يمارسه المبدع على المتلقي. وفي المطاف الأخير للناقد يقف بنا مع الآخر الذي استمد وجوده من التماهي الحاصل مع الذات المهيمنة ، والتي ما لبث الشاعر التعاطي مع الذوات الأخرى على مستوى الواقع لا الخيال ، على الرغم من استثماره للخيال ، فالذوات الأخرى مستمدة من الواقع والتاريخ ، فهي شخصيات حقيقية انهلت منها الذات لتدعيم وجودها وتعزيز هيمنتها ، وهذه الذات تبوح بأمانيها المؤجلة التي تنضوي في طيّات النص كي تستمدَّ من المتلقي ديمومتها ، فتحفزه ذاكرته الإبداعية ووعيه الباطن لاستكناه تلك الأماني المؤجلة، التي رسمها الشاعر مستعينًا بالإيحاء، وقدرة اللغة على تقصي المجهول ورسم آفاق واسعة للنص تشكّل بؤرة النص التي تتعالق مع العنوان فالمؤجل بحسب رأي الناقد بنية محايثة للنص، من الممكن استثمارها لإنتاج دلالة جديدة على مستوى الظاهر والمضمر . وهذه أبرز المحاور التي عرجّنا عليها للوقوف على أهم التجليات الإبداعية في الرؤية النقدية للناقد (د.سعيد حميد كاظم ) الذي وفّق في اختيار الأنموذج الشاعر نوفل أبو رغيف ليسقط على نصوصه رؤيته النقدية ، وقد أجادَ وهو يترصد مكامن الإبداع في النصوص عبر التجديد والتغيير على مستوى الرؤية ومستوى الجمال والدلالة ، لقد وقف على هذه المكامن بلغة أدبية متمكنة ودقيقة مستنبطًا وحي الجمال وكاشفًا عن ذلك بلغته النقدية الرصينة التي شكّلت جمالًا آخر لبنية الكتاب ، فدقته في التصويب جعلته يحاول رصد المكامن الإبداعية بأكبر قدر ممكن كي لا تنفرط من قبضته ، ليختار بوعيه النقديّ وعيًا شعريًا في النصوص الشعرية للشاعر.


المشاهدات 2005
تاريخ الإضافة 2020/02/04 - 3:24 AM
آخر تحديث 2025/01/02 - 10:46 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 120 الشهر 1868 الكلي 1164550
تصميم وتطوير